الجمعة، ١٤ مارس ٢٠٠٨

نصف العاطلين من المتعلمين

محسن المزليني
هل أصبح تعليمنا مؤسسة لتخريج العاطلين؟ وأين هي الإجراءات الحقيقية لمعالجة هذا الخلل الفادح، إن وُجدت الرغبة أصلا في معالجته؟ ذلك ما يطرحه العديد من المراقبين بعد أن توالت التقارير المنبهة إلى خطورة التحديات التي تعترض النظام التعليمي التونسي. فعلى غرار تقرير الأمم المتحدة الصادر أواخر السنة المنقضية، نبّه تقرير جديد صدر عن البنك الدولي أوّل شهر فيفري الجاري إلى الحيرة التي يبعث عليها وضع التعليم في تونس، خاصّة بعد الفشل المسجل في تحقيق أهداف عملية تنموية غير متحكّم في مفاصلها. لقد أشار التقرير الصّادر بعنوان "الطريق غير السالك: الإصلاح التعليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" إلى الفجوة الكبيرة بين ما ينتجه النظام التعليمي وبين ما تحتاجه البلاد لتحقيق الأهداف التنموية الحالية والمستقبلية.
أرقام محيرة
لا شكّ أنّ الأرقام التي أصدرها التقرير لا تحتاج إلى خطب أو بلاغات دعائية دأب عليها الكثير من المسؤولين كلما تعلّق الأمر بمعطيات تختلف عن المعطيات الرسمية. فقد أشار التقرير إلى أنّ نسبة العاطلين عن العمل ممن لا يقل تعليمهم عن مستوى الثانوي بلغت 42.5 بالمائة، وهي نسبة احتلت بها بلادنا مرتبة ثالثة على المستوى العربي، بعد كل من مصر بـ80 بالمائة والبحرين 59 بالمائة والأردن 43.6 بالمائة. وإذا كان البعض سيجادل بأن ذلك يُعدّ دليلا على انتشار التعليم،إلاّ أنّ ذلك لا يمكن أن يحجب الكثير من التساؤلات حول نوعية التعليم ومدى نجاحه في استيعاب عطالة الخريجين. وهي عطالةأشارت إليها عديد الإحصائيات المحلية، رغم الإختلالات المنهجية في طرق الإحصاء و المقاييس المعتمدة، كما يشير إلى ذلك الخبير الإقتصادي الدولي عزام محجوب. وأضاف أنّ عدد العاطلين من ذوي الشهائد العليا تطوّر حسب المسح الميداني الذي تقوم به وزارة التشغيل من 6.500 شاب سنة 1994 إلى 66.000 سنة 2005، أي أنّ النسبة قد تضاعفت عشر مرات. وبذلك تغيرت نسبتهم من 1.6 بالمائة من مجموع العاطلين إلى 13.6 بالمائة. وهو ما يشير إلى تطور مطرد حسب الدكتورعزام دائما. غير أنّ هذه الأرقام الجملية تصمت عن التفاوت بين الجهات في هذا الخصوص، إذ لا تحصي نسب العاطلين من أصحاب الشهائد العليا والتي تدلّ عديد المؤشرات إلى ارتفاعها في كثير من الجهات المحرومة، مثلها مثل النسبة الكلية للبطالة التي أشارت نتائج التعداد السكاني لسنة 2004 أنّها تجاوزت في بعض المناطق المعدل العام للبطالة، على غرار الحال في قفصة والقصرين (21 بالمائة في قفصة وجندوبة والقصرين وزغوان، في حين بلغت النسبة الوطنية 13.9 بالمائة). وقياسا على ذلك يعتبر محجوب أنّها ستكون على نفس الشاكلة من التفاوت.
أمّا عن الأسباب فيرى أنّ أهمها هيكلي ويتعلّق بعدم التطابق بين الكفاءات المتخرجة من الجامعات والمعروض في سوق الشغل، بعد أن ضمرت قدرة القطاع العام عن استيعابهم جراء تغير سياسات الدولة الإقتصادية، إضافة إلى عجز القطاع الخاص عن القيام بهذا الدور نظرا إلى غلبة المؤسسات الصغرى والعائلية، وهو ما حد من قدرتها على استيعاب الكفاءات العليا، واكتفائها بتكوين عملة مختصين. واعتمادا على تقارير البنك الدولي، أكد عزام على المفارقة بين التطلعات الكبيرة للشباب المتخرّج وتجربته الصغيرة في ميدان العمل. وبناء على ذلك يرى أنّ التركيز لابد أن يتم على قضية التصويب ciblage أي تحديد التخصص الذي تحتاج إليه الظرفية الإقتصادية، إضافة إلى تقييم جدوى وفعالية البرامج لتطوير مشاريع قابلة للصمود والبقاء.
الوجه الآخر للبطالة
لا شك أنّ الأرقام مهمة لدراسة الظواهر، غير أنّ مسألة البطالة تحتاج إلى زاوية أخرى لتأثيث المشهد. فإذا كان التعريف المؤسساتي (معهد الإحصاء) للعاطلين عن العمل يحددهم بأنّهم "أولئك الذين لم يشتغلوا في الأسبوع السابق للإحصاء وهم في حالة بحث عن شغل. وينقسم هؤلاء إلى فئتين: فئة الأشخاص الناشطين الذين لا يشتغلون من 18 إلى 59 سنة وهم العاطلون. وفئة الأشخاص الناشطين الذين لا يشتغلون من15 إلى 17 سنة ومن 60 سنة فما فوق هي فئات أخرى غير ناشطة"
إلا أنّ هذا التعريف الجاف لا يشير إلى البعد الإنساني والإجتماعي لهذه الظاهرة وكيفية تدبير هذه الفئة لعيشها اليومي. إنّه عالم البطالة والإستقالة بكل خيباته وطموحاته، آماله وآلامه. باختصار فإنّ البطالة لم تعد مجرّد تجربة لشكل من الإقصاء، إنما هي كذلك مختبر اجتماعي تتجاذبه نزعات معقدة فيها الكثير من التجريب و"تدبير الراس".
مجدي شاب حاصل على أستاذية في علم الإجتماع، عاطل عن العمل، وإن كان يفضل نعت نفسه بالمعطّل. عطالة مستمرة طيلة خمس عجاف، كما قال، رسّبت في نفسه شعور بالإحباط ليس متأكّدا من قرب الخروج منه، خاصّة وأنّه خريج شعبة لا تعترف بها الدولة في مناظراتها وكأنّها ليست وزارة التعليم من جعلتها اختصاصا يُدرّس. إنّها شعبة فخّ كما يقول فهي منذ إنشائها بإنشاء الجامعة التونسية لم تعترف لها السلطة بالوجود إذ لم توفّر لها قانونا أساسيا يحدد مآل خريجيها. كما أنّه لا يمتلك مفاتيح دخول عالم الشغل لأنّه لا يملك أكتاف سمان أو مالا يفتح الأبواب.
أمّا عن يومياته فتفاصيلها قليلة. يبدأ يومه مع زوال الشمس عن كبد السماء. "الزمن بالساعات لا يعنيني كثيرا" قال مجدي. فالمقهى هو قاهر الزمن، متسائلا عن معنى الأمل وهو يطلب كلّ يوم من الوالدة بعضا من دريهمات تقتطعها من مصروف العائلة لتحافظ على "القدرة الشرائية" لابنها الأستاذ الذي أفنت جزءا كبيرا من جهدها ووقتها من أجل أن يتخرّج، قبل أن يتحوّل نجاحه حسرات عليه. وبمرارة يضيف "لعلنا من البلدان القليلة التي لا يقيم الناجح فيها وزنا لنجاحه، بل قد يكون مثار سخرية من اختار الإنقطاع باكرا، فاكتسب صنعة أو ابتكر طريقة تجلب له رزقا. إذ لم يعد الرزق مرتبطا بالنجاح في الدراسة. وتساءل أبهذا المصير نعطي المثال للتلاميذ الصّغار؟

ليست هناك تعليقات: